أرادت جدتي زيارة بيت الله الحرام لأداء فريضة الحجّ و بما أنها عجوز تكاد تبلغ الثمانين من العمر، اضطرّ والدي مرافقتها. و في اليوم الموعود سافرا إلى البقاع المقدّسة و الفرحة تملا القلوب فقد كانت أمنيّة جدتي الطيّبة الحنون التي طالما تاقت إلى تحقيقها .
كان والداي قد طلبا منّي قبل السّفر تسير شؤون البيت أثناء غيابهما فلبّيت طلبهما بابتسامة مغصوبة متكلّفة .و ما أن تناهى إليّ صوت إغلاق الباب حتى أحضرت أخي الصغير و أجلسته على الأريكة المجاورة لأريكتي حتى لا يزعجني ،أحضرت له بعض لعبه ليتسلّى بها و مضت الايام و أنا أحرسه و أحصي عليه أنفاسه و لكن في يوم من الايام و كان جميع إخوتي الآخرين لا يزالون يغطّون في نوم عميق .انتهزت الفرصة و فتحت التّلفاز .جلست أشاهد مسلسلي التلفزي المفضّل في راحة و رفاهية. كنت أتأمّل التّلفاز بكل انتباه خوفا من أن يفوتني حدث مهم و فجأة سمعت صراخ أخي المتكرّر فهرعت إليه و حملته بين أحضاني و بقيت أهدهده إلى أن غلبه النعاس فوضعته في مهده و انسللت إلى الخارج لألتحق برفاقي. كنت أركض في سرعة و سرور كعصفور غادر القفص فمدّ جناحيه في أجواء الفضاء و لكنّي كنت مذبذب المشاعر بين الفرح و القلق .
استقبلني أترابي بترحاب شديد. أحسست بالانطلاق والحرية و بالانتشاء فما أحلى أن يقضي الفرد وقتا مع أنداده يشاركهم ألعابهم و أحاديثهم ،حتى خلافتهم سرعان ما تزول و يعود الكل إلى اللّعب كأنّ شيئا لم يكن .
مرّت الساعات كأنّها دقائق .فجأة تذكّرت أمر أخي فعدت إلى المنزل مسرعا أتفقده و ما إن فتحت الغرفة حتى وجدت أخي يتخبط في بركة من الدماء و قد كسر أحد الكؤوس و جرح يده .هالني ما رأيت و ارتعدت فرائصي و زلزل كياني الرّعب و تجمد الدم في عروقي و التصقت بالجدار و كدت أفقد صوابي لكنني تماسكت فصحت به قائلا :
"أيها المشاكس، أيها الأحمق، ماذا فعلت؟ ماذا حدث؟ إنّني سأقتلك، سترى منّي أشدّ العقاب "
لكنّني بعد ذلك أشفقت عليه، فأيقظت إخوتي فأقبلوا مسرعين لاستطلاع الأمر وما إن دخل أخي سامي الغرفة حتى صرخ:
"ماذا حصل لأخيك؟ ما كل هذه الدماء؟ هل أنت من سبب له هذا؟"
"لا ليس أنا... أقسم ‘إنه ليس أنا."
"إذا ما سبب كلّ هذا؟"
" لا أعلم ... لقد كنت في الخارج أروّح عن نفسي و عندما أقبلت اكتشفت هذه المصيبة"
"هيّا ننقله للطبيب فورا هيّا"
أسرعت إليه فحملته بين أحضاني و اتّجهنا نحو المستشفى في سيّارة أجرة. و لما وصلنا أدخله الطبيب إلى غرفة العمليات .مرّ الوقت كأنّه الدهر و أخيرا خرج من الغرفة مبتسما فسألناه عن حالته فأخبرنا أنه سالم معافى. تنفّست الصّعداء وارتاح قلبي. فعدنا إلى المنزل سعداء بهذه النتيجة و بدأنا في الاستعداد لعودة والدي و جدّتي من الحجّ.
وما أن وصلا حتى انقطعت الأيدي عمّا كانت تصنع وأسرعت الأرجل نحو الباب واستقبلناهم بحفاوة و من نظراتنا الخائفة و أيدينا المرتعشة فهموا أن شيئا قد حصل. سردنا عليهم الحقيقة فـ ...