كانت شمس الظهيرة تسلـّط أشعـّتها الحارقة على المحطة المكتظة بالرجال و النساء و الأطفال وكان الناس ينتظرون قدوم الحافلة على أحرّ من الجمر ، بعد طول انتظار قدمت الحافلة متثاقلة مترنّحة ذات اليمين و ذات الشمال ، انفتح الباب الخلفيّ فتدفـّق الرّكـــّاب كالسّيل العارم بل كالأمواج الهادرة يتزاحمون بالمناكب يريدون جميعا الصّعود في وقت واحد و يرغبون في احتلال كلّ المقاعد الشّاغرة . لمـّا هدأ الزّحام قليلا صعدت عجوز طاعنة في السنّ ، شعرها أبيض كبياض الثّلج و قد ارتسمت التجاعيد على وجهها و احدودب ظهرها من ثقل السّنون عليه ، كانت تتوكـّأ على عكـّاز و تمشي على مهل فوجدت كلّ الأماكن مشغولة . رمقتها نظرات الركاب و التوت الأعناق مشرئبـّة تتبع حركاتها البطيئة لكن أحدا لم يحرك ساكنا فتشبـّثت العجوز المسكينة بأحد الأعمدة وهي صابرة متضرّعة إلى الله أن يخفـّف عنها عناء السفرة الشاقة ، تفطـّن أحمد الصغير وهو طفل يافع تبدو عليه سمات الذّكاء و الحياء و بكل ما يحمله من براءة الأطفال و شهامة الرجال قام من مكانه و قال بلطف :
- تفضلي يا جدّتي و اجلسي و ارتاحي في مكاني، أنت أحقّ منا جميعا بالجلوس.
نظرت إليه العجوز ممتنـّة شاكرة الله لأنه أرسل لها هذا الملاك الصغير ثم ردّت بصوت منخفض:
- جازاك الله خيرا يا بنيّ، شكرا على شهامتك ...
أجاب أحمد و قد احمرّت وجنتاه :
- لا شكر على واجب يا جدّتي ، المهمّ راحتك ،
أردفت الجدّة بلطف :
- إنـّك ولد نبيل و مضرب للأمثال و قدوة تحتذى أرجو أن يتعلم منك الجميع نبل الأخلاق
قضت العجوز سفرتها في راحة و سكينة و نظر إليها أحمد و ابتسم برقـّة:
"لله ما أحلى التعاون و ما أروع التضامن ! الحمد لله أن وفقني لفعل الخير ".