1- أحبُّ منَ النَّاس العَاملَ :
أحبُّ الذي يَشتَغل بفكره فَيَبتَدع منَ التُّراب صوَرا (1) حَيَّة جَميلَة نَافعَة ، وَ أحبُّ ذَلكَ الذّي يَجدُ في حَديقَة وَرثَهَا عَن أَبيه شَجَرَةَ تفَّاح وَاحدَة ، فَيَغرس إلَى جَانبهَا شَجَرَة ثَانيَة و ذَلكَ الذي يَشتَري كَرمَة تثمر قنطَارا منَ العنَب ، فَيَعطف عَلَيهَا و يدَلّلهَا (2) لتعطيَ قنطَارَين ، و أحبّ الرَّجلَ الذّي يَتَنَاوَل الأخشَابَ الجَافَّةَ المهمَلَةَ ، فَيَصنَع منهَا مَهدا للأطفَال ، أو قيثَارَة للأغنَام ، و الرَّجلَ الذّي يقيم من الصّخور المَنَازلَ و الدّورَ .
2- أحبُّ منَ النَّاس العَاملَ :
أحبُّ ذَلكَ الذّي يحَوّل الطّينَ إلَى آنيَة للزَّيتِ أو للقطر (3)، أحبُّ الذِّي يَحيك منَ القطن قَميصا (4) و منَ الصّوف جبَّة و منَ الحَرير ردَاء. و أحبّ الحَدَّادَ الذّي مَا أنزَلَ مطرَقَتَه عَلَى سندَان هالاّ أنزل معها قطرة من عرقه. و أحب الخيّاط الذي يخيط الأثواب بأسلاك مشتبكة بأسلاك من نور عينيه (5)، و أحبّ النّجار الذي لا يدقّ المسمار إلاّ إذا دفن معه شيئا من عزيمته (6).
3- أحب جميع هؤلاء :
و في قلبي حبّ عميق للرّاعي الذي يقود قطيعه كلّ صباح إلى المروج الخضراء، و يورده المناهل الصّافية (7) ، و يناجيه بشبّابته النهار بطوله .أحب من الناس العامل لأنه يجدّد أيّامنا و ليالينا (8)، و أحبّه لأنّه يطعمنا. أحبّه لأنه يغزل و يحوك لِنَلبس الأثواب الجديدة، أحبّه لأنّه يبني المنازل العالية، و أحبّ ابتسامته الحلوة، و أحبّ نظرة الاستقلال و الحريّة في عينيه.
4- و ماذا عساي أن أقول في من يكره العمل لخمول في جسده و روحه، و في من يأبى العمل لأنّه بغنًى عن الربح ، و في من يحتقر العمل متوهّما أنه أشرف من أن يلوّث يديه بالتّـــراب (9) ؟ ماذا عساي أقول في الذين يجلسون الى مائدة الطعام ، و لا يضعون عليها رغيفا من الخبز جهادهم ؟ ماذا أقول في الذين يحصدون من حيث لا يزرعون ؟
لا أستطيع أن أقول كلمة في هؤلاء أكثر أو أقلّ ممّا أقول في النّبات و الحشرات الطفيلية (10) التي تستمد حياتها من عصير النّبت العامل و دماء الحيوان .
جبران خليل جبران