وصف القرية
القرية هي البرّية بجلالها وجمالها، وإشراقها وضيائها، وخضرتها ومائها، ورقة هوائها وزرقة سمائها.
هي صياح الديك ولثغة الشحرور وتغريد الطيور ومأمأة الخروف وثغاء العنزة ومواء القطة ونباح الكلب وخوار البقرة وخرير الساقية وأنين الناي، تتناغم وتنشد في تناسق وانسجام.
هي رائحة الأعشاب والنعناع والبابونج وعبير التفاح والبرتقال.
هي الخبز البيتي والحليب الصافي، والعسل الحر، وزيت الزيتون النقي.
هي ركوب الخيل والحمير، والبكور إلى الطاحونة لطحن القمح والشعير، وحمل الماء من العين والينبوع والغدير.
هي التمسك بالعادات الحميدة التي توارثناها عن آبائنا وأجدادنا من إغاثة الملهوف واحترام الكبير وإعانة الضعيف ورعاية حقوق الجار، وقد أصبحنا نفتقدها في المدينة، لذلك يسميها بعضهم "أخلاق القرية".
ولا يعرف فضل القرية إلا من عاش في المدينة، في بيوت أرضها وسقوفها وجدرانها وقلبها حجر، لا يدخلها النور والدفء إلا بمقدار، ولا يتجدد هواؤها، ولا يستساغ ماؤها ، ولا ترى في كثير من أنحائها شمسها ونجومها وسماؤها.
كنا نهرب إلى أحضانها هربا من قيود الحضارة الزائفة، لننعم بالشمس والهواء والليل والنجوم والقمر والحرية، فنجد فيها ملاذا من الصخب والضوضاء والقلق والتلوث. تتجاور فيها المخلوقات دون حواجز، فيعيشون معا في هناء وصفاء جنبا إلى جنب: الناس الحيوانات والطيور والنباتات.
هذه هي القرية التي عرفناها في الماضي، فماذا بقي منها الآن؟
أهلها ودعوا القناعة، وفارقوا الوداعة، وبعضهم هجرها إلى المدينة مستبدلين ماديتها بروحانيتهم وقلقها المزمن بطمأنينتهم، وبعضهم مكثوا فيها وتقاعسوا عن خدمتها، وأرادوا أن يجعلوها مدينة مصغرة فاستبدلوا العمائر بالدور وأحالوا ترابها قارا وخضرتها أحجارا وجعلوا بينهم وبين الطبيعة ستارا فتسمم هواؤها وغاض ماؤها.
لقد حوصرت آخر قلاع الطبيعة، وتكاد أن تسقط لولا البقية الباقية من جيوب المقاومة التي تحصنت فيها، وآلت على نفسها أن تحميها، فهل تراها تستطيع؟