كنتم تسهرون كالعادة و قد عاد الجميع إلى المنزل إذا بطرقات عنيفة على الباب الخارجي تحدّث.
******
في إحدى ليالي القرّ حيث يكون البرد قارسا ينفذ إلى العظام فتصطكّ الأسنان وترتعش الأوصال، كنّا مجتمعين في غرفة الجلوس نتسامر و نتجاذب أطراف الحديث و يحكي كلّ منّا ما حفظه من الملح و القصص الطّريفة. كانت أمّي توقد الكانون لنصطلي على وميض لهبه ونسهر إلى أواخر الليل وقد لاحت على وجوهنا علامات الطمأنينة والغبطة. لكن ذلك لم يدم طويلا فقد تناهت إلى مسامعنا طرقات مرعبة تتوالى على الباب الخارجيّ فتبادلنا نظرات الاستغراب واشتدّت بنا الحيرة و عصف بنا قلق هائل جعلنا فريسة سهلة لأفكار شتّى تتنازعنا و تتقاذفنا ذات اليمين و ذات الشمال و تتلاعب بنا كالريشة في مهبّ الريح.
- أيكون السارق قد قرر الدخول من الباب؟ أردف أخي و قد انتصب شعر رأسه خوفا من الطارق الغريب و ارتمى في حضن أمّي باكيا .
قال أبي بلهجة المستفسر:
- من الطارق في هذا الهزيع الأخير من الليل؟
فأجاب الشخص الغامض بلهجة يستشف منها الاضطراب و القلق :
- هذه أنا جارتكم أمّ محمود، افتحوا لي من فضلكم.
عندئذ تدخّلت أمّي قائلة و علامات القلق بادية على محيّاها.
- جارتي أم محمود؟ ما الذي أتى بها.
تقدّم أبي بخطوات واثقة وفتح الباب فإذا هي جارتنا في حالة يرثى لها قد علمنا من نظراتها اليائسة ووجهها الشاحب و دمعها الملتهب المنهمر على وجنتيها الحمراوين أنّ شيئا مريعا أصابها.
و بعد أن هدأ روعها سألها والدي مضطربا:
- ما الذي حصل يا جارة؟
فأجابته مرتبكة: إنّه ابني وفلذة كبدي، لقد ألمّ به مرض و استفحل في كامل أجزاء بدنه فلم أدر كيف أتصرّف فجئتكم أسألكم الإعانة.
صدمنا لهول المفاجأة ولم نصدّق ما سمعته آذاننا و دون تردّد استدعى والدي سيارة الإسعاف و نقل يوسف إلى المستشفى حيث استقبله هناك أطبّاء مختصّون و فحصوه فحصا دقيقا بينما كنّا في غرفة الانتظار نترقّب النتيجة و قد ساورنا القلق و تملــّكتنا الهواجس و لمّا خرج الطّبيب أحطنا به ننتظر منه جوابا يشفي غليلنا فقال لنا مطمئنّا:
-حالته ليست خطيرة لكن عليه البقاء مدّة في المستشفى حتّى يشفى.
فتنفسنا الصعداء وتهلــّلت الأسارير ومسحت الأمّ دمعا ترقرق على عينيها وخفّ ما بها.
و تتالت الأيّام فكان يوسف يتلقّى العلاج الملائم له فتماثل للشفاء و عادت الاشراقة إلى وجهه و عاد الفرح و السرور ليغمرا قلبه الصغير و عادت إليه صحته و عافيته كاملة. فشكرتنا أمه جزيل الشكر قائلة:
- شكرا لكم على معروفكم وإني لو الله ممتنّة لكم وتأكدوا أن عمل الخير لا يضيع.فأردفنا قائلين في سرور وابتهاج:
- لا عليك إن ما فعلناه لم يكن غير واجبنا نحوك.