أقبل فصل الخريف مهرولا فغامت السّماء و تراكمت فيها السّحب الدّكناء
حتى أظلمت الدنيا فالمطر مقبل يُبشــّر بقدومه ومض البرق اللاّمع و قصف الرّعد المدوّي
و الأوراق الصّفراء مكدّسة أحيانا و
مبعثرة أحيانا أخرى تذروها الرّياح العابثة و الأشجار شبه عارية جرّدت من كساءها .عزم
محمود على زراعة حقله المترامي الأرجاء قمحا لكي يجمع صابة كبيرة يخزنها لوقت الشّدة
و لا ينسى أن يوزع منها نصيبا على فقراء الضيعة كعادته. …
أمضى أياما شاقة يحرث و يسمـّد وجه الثرى و هاهو اليوم يقصد حقله
فجرا لينثر حبوبا صفراء كالذهب الخالص.
و بعد أسابيع معدودات بدت كأنها أشهر للعم محمود الذي كان ينتظر
على أحر من الجمر ولادة أولى نباتات القمح، بدأ الزرع ينمو شيئا فشيئا و ظهرت السّنابل
متطاولة بتيجانها الذّهبية كملكات متوّجات على عرش الجمال و الرّفعة ثم اصفرّت و
صارت كأشعّة الشّمس الذّهبية.
و لكن يال الخيبة ! فمنذ
ذلك الحين بدأت الطّيور تهاجم الحقل كجيش في معركة حامية الوطيس فتأخذ بعض الطّعام
لصغارها و تخرّب البعض الآخر من سنابل القمح، لم ير العمّ محمود مثيلا لسطوة هذه
الحيوانات الصّغيرة الهاربة من قسوة الجوع. إنّه يعرف أنها ضيوف لابد لها من زيارته،
بل كان يحتسب ما تأكله الطّيور صدقة لكن هذه المرة أصبح الأمر خطيرا. تألّم و حزن
كثيرا لأنه بذل جهدا كبيرا في زراعة السنابل و سقيها و حراستها. اشتدّت به الحيرة
و عصف بنفسه قلق هائل جعله فريسة لأفكار شتى تلاعبت به كريشة في خضم التساؤلات.
فكـّر كثيرا في حلّ مفيد لهذه المشكلة و فضـّل أن لا يبقى جالسا
مكتوف الأيد و فجأة برقت في عينيه بارقة الأمل : سوف يصنع فزاعة لإخافة الطيور.
أخذ قطعة خشبة طويلة و غرسها
في التراب ثم ألبسها سرواله القديم و معطفه الضيق و صنع لها وجها من كيس مليء
بالقطن زيــّنه
بأزرار سوداء مكان العينين ثم وضع فوق
رأسها مظلة .
و في الصباح الباكر و عندما حاولت الطيور السطو على السنابل رأت
الفزاعة المنتصبة بيديها الملوحتين فظنتها رجلا حقيقيا . غادرت الطيور مسرعة هاربة
خوفا من هذا الوحش الآدميّ و تركت سنابل القمح في حالها سعيدة راضية بوقوفها قبالة
الشمس .
و حين رآها العم محمود هاربة خائفة أحسّ بالفرح و ظهرت علامات
الانتصار على وجهه و إذا الدّنيا من حوله نغم حلو ساحر و إذا الأصوات كالملائكة
تطير و شرع في جمع صابته الوفيرة قبل أن يحلّ به زائر آخر ثقيل الظل.