ضجرت أمّي يوما من كثرة طلبــــــــــاتي و ضاقت ذرعا من دلالي المفرط عليها ، فتأفّفت متشاغلة عنّي بكتاب بين يديـــــها، و لمّا تماديت في مشاكستي لها ، قالت لي :" أنت يا صغيرتي تعيشين في رغد و رفاه ، تنعمين بالضّروري من العيش و الكمالي منه، لا تحملين همًّا و لا تنشغلين بأمر، تنامين آمنة و تستيقظين منطلقة ، تأمرين فتُطاعين بلا تردّد و تُغالين في المطالب فيُستجاب لك مهما أفرطت في الطــــّــلب، و تحتجّين إذا تباطأت في الاستــــجابة لك و كأنّما تمتلكين بإصبعك خاتما سحريّا يلبّي كل شهواتك في غمضة عين و لا تعلمين أنّك محظوظة و تجهلين ما يعانيه غيرك من أطفال العالم. انظري إلى هذا الكتاب بين يديّ و استمعي إلى أطوار قصّة هذا الطّفل: في بلاد بعيدة كان يعيش "غانم" حياة آمنة بسيطة. و كان أبوه فلاّحا يقضي يومه في الحقل يساعده ابنه الأوسط في ذلك، في حين تنشغل الأمّ بشؤون البيت صحبة ابنتها الكبرى. و تمرّ الحياة بهذه الأسرة هادئة إلى أن كان يوم يُنذر بالشُّؤم و الخراب حيث استوطن الأعداء بلدتهم، فخرّبوا الدّيار و افتكُّوا الأراضي و أسروا الثّائرين و زرعوا الرّعب في قلوب الأطفال و النساء. كان "غانم" لا يزال صغيرا حين رآهم يحتلّون أرض أبيه التي رواها بعرقه و تعبه و اعترض الأب على ذلك ، رفض أن يتنازل لهم عن أرضه. كان عددهم كبيرا و كانوا مسلّحين أمّا أبوه فكان وحيدا أعزل من السّلاح سوى حبّه لأرضــــه و إيمانه بضرورة الدّفاع عنها. و سخر منه المحتلّون ، ركلوه بأرجلهم و كادوا يدهسونه بدبّاباتهم الشّنيعة و بكت زوجته و احتمى "غانم" بحضنها باكيا فزعا، و اختفت "زينب" في بهو الدّار خوفا و كتم "غانم " حــــــــــنقه و غيظه. تمكّن الأعداء من افتكاك عدد كبير من أراضي أهالي القرية و اجتمع شباب البلدة و رجالها الأقوياء و راحوا يخطّطون للانتقام من هؤولاء الظّالمين و استرجاع أراضيهم و تحرير الأسرى من بين أيديهم. كان لابدّ من وضع خطّة محكمة ثم هاجم رجال القرية الأعداء و قاتلوهم بشدّة و رأى "صلاح" أخاه "غانم" و هو يسقط شهيدا في المعركة ، وتناهى إليه صوت أمّه مزغردة قائلة " الى جنّة الخلد يا بنيّ ، إلى جنّة الرّمان بإذن الله" ، و تبعتها زغاريد أمّهات الشهداء جميعا. و تتالت الأيّام على نفس الوتيرة و كلّما تعاظم ظلم الأعداء تضاعف عدد المناضلين و كثر عدد الشــــــــــهداء و تعالت زغاريد الأمّهات.
و في يوم عاود العدوّ اقتحام الدّيار فخرّبـــــوها و دوّت القنابل فوقها فدمرتّها و رأى "صالح "أمّه و أخته جثّتين تختفيان تحت الأنقاض . و بات "صلاح" وحيدا شريدا بلا وطن و بلا عائلة و سار مع جموع المرتحلين بحثا عن ملجئ و كان الجــــوع يمزّقهم و البرد يعتصرهم حتّى وصلوا إلى إحدى مخيّمات اللاّجئين فاحتموا بها و كبر "صالح" دون أن يعيش طفولته كغيره من الأطفال . لم يعرف لُعَبًا و لا دخل مدرسة و لا نَعِمَ بأسرته، لكنّه تعلّم الصّبر و الـــــــــعزيمة و الصُّمود فصار رجلا قبل الأوان و صار يواجه الأعداء كغيره من أطفال المخيّم بالحجارة ، لا يتعب ولا يتراجع و لا يدبّ الخوف في قلبه لرؤية الدّبّابات و المدافع، و لا يهاب القنابل و الرّصاص. و رغم الجوع و العــــــــراء و التشرّد و الحرمان ظلّ هو و غيره من الأطفال صامدين في وجه الأعداء، لا يعرفون اليأس و لا يقبلون الـــــــــــهزيمة."
توقّفت أمّي عن القصّ و صوتها يحتدّ ألما و ثورة، فسألتها: "أمّاه لماذا توقّفت ؟ أنهي الحكاية" فردّت أمي و صوتها يمتلئ أملا و تفاؤلا:" ستنتهي الحكاية يا صغيرتي حينما تتبدّد الظّلمة و يشرق الفجر.... فجر الحرّية و هو آت قريبا بإذن الله."