كان محمود عاملا فلاحيا يشتغل في مزرعة متراميةالأطرافة كثيرة الخيرات كلفه صاحب المزرعة بالأبقار يهتم بها و يرعاها و ينظف مرابطها و يحلبها.
و كانت تمر بالمزرعة كل يوم شاحنة تأخذ الحليب إلى شركة معروفة تضع الحليب في قوارير و تستخرج من بعضه الآخر زبدة و جبنا.
وكان محمود يبقي على نصيب من ذلك الحليب يقتسمه مع صاحب المزرعة لاستهلاكها اليوميّ.
كان نصيب محمود وافرا ، ففكـّر في استثماره، لكن كيف؟
تفتّح ذهنه على فكرة بدت له رائعة :
- سأستخرج منه زبدة أمــلــّحها و أخزنها و بعد مدّة أصنع منه سمنا ذكيّ الرائحة.
فهو يعلم أنّ الناس يحبّون السمن في بقلاوة عيد الفطر، و قد صار السمن بضاعة نادرة لاعراض الناس عن صنعه، لذلك صار ثمنه غاليا جدا.
فالناس يفضّلون الزبدة الخفيفة و الياغورت و الجبن، و لا يحتاجون إلى السمن إلاّ في مناسبات قليلة. قال في نفسه :
- حقّا إنّها لفكرة جيّدة.
مضى زمن وهو دائب على صنع السمن ، و كان لشدّة تعلّقه بسمنه يضعه في جرّة معلّقة في سقف غرفته، فوق سريره بالضبط. لم يتركها في ركن من أركان الغرفة المتواضعة خشية أن تجلب بعض الحشرات و الهوامّ.
ذات يوم صنع شيئا من السمن ثمّ صبّه في الجرّة فإذا به يرى السمن يكاد يفيض من الجرّة.
صاح فرحا:
- الحمد لله قد امتلأت الجرّة
علّقها في موضعها المعهود. ثم خرج يتفقّد الأبقار.
عاد بعد ساعة تقريبا إلى غرفته لينام. تمدّد على فراشه رفع عينيه فرأى الجرّة تتدلــّى.
ابتسم سعيدا بثروته الصّغيرة و جعل يحلم :
- غدا آخذها إلى السوق، لن يقلّ ثمنها عن ستين دينارا ...
ثم فكـّر :
- ماذا سأشتري بثمنها ؟ آه حسنا، سأشتري عنزين ذكرا و انثى فالعنز كثير النسل ، بعد مدّة سيكون عندي كذا ... و كذا..
و عمل حسابه فرأى بخياله قطيعا من العنز يعدّ المئات.
ثمّ حاور نفسه :
- العنز يحتاج إلى أرض شاسعة جدا ، وهو مفسد للأشجار، أظنّ انّ من الأفضل بيعه و استبداله بأبقار، فأنا خبير بتربية الأبقار.
نفّذ هذا المشروع بخياله فإذا به ، بعد سنين صاحب قطيع كبير من البقر ، باع منه و اشترى أرضا و منزلا كبيرا.
لكنّه فكّر :
- من سيؤنس وحدتي في هذا المنزل و يساعدني على شؤونه حتى أتفرغ للضيعة و الماشية ؟
ابتسم وهو يتذكّر ابنة عمّه الجميلة محبوبة.
ستكون زوجته و سيتعاونان على بناء حياة زوجيّة هانئة يزيد في سعادتهما ولدان و بنت. نعم لن يكون له اكثر من هذا العدد . قرّر ذلك عن تجربة فهو من عائلة فقيرة زادتها كثرة العيال افتقارا.
لو كان عددهما محدودا لاهتمّ به أبوه أكثر و لأكمل تعليمه و لحصل على وظيفة محترمة.
نعم سيعلّم أبناءه، فالعلم نور .
فكّر :
- و لكن لو كان احد الأبناء مشاكسا كما كنت في صغري فلابدّ من تأديبه، نعم أؤدّبه.
تخيّله عنيدا لا يعمل إلا بما في رأسه .
صاح فيه:
- اسمع كلامي و إلاّ ...
رفع العصا التي يرعى بها و قد كانت لا تفارقه مهدّدا ، لكن يبدو انّ الطفل في خياله ازداد عنادا فأهوى عليه بالعصا قصد تأديبه فإذا بالجرّة تنكسر و يندلق السمن على رأسه ليوقظه من أحلام اليقظة.
صاح:
- يال الخسارة ؟ والهف نفسي على مشاريعي التي ازدهرت في طرفة عين و تبخّرت في طرفة عين.
تعلم انّ المستقبل يبنى بالعمل و الكدّ لا بالأحلام ، فالأحلام هي الدافع إلى العمل حتى يصير الحلم حقيقة. و فجأة تذكّر جدّه فجعل يردّد في نفسه ما قال له ذات يوم :
"حقّق الآمال بكثرة الأعمال
اجتهد و كافح في برد و حرّ لافح
و اجعل الحلم طريقا إلى مستقبل ناجح"
لم يدم حزنه طويلا إذ قام يجمع ما بقي من السمن الذي لم يلوّثه التراب، و كلّه عزم على تحقيق حلمه بمزيد من العمل مستعينا بالصبر و المثابرة.